سورة الرعد - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


قوله: {المر} قد تقدّم الكلام في هذه الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة، وهو اسم للسورة مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف. أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده، والتقدير على الأول: هذه السورة اسمها هذا، والإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى آيات هذه السورة، والمراد بالكتاب: السورة أي: تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن، ويكون قوله: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} مراداً به القرآن كله، أي: هو الحق البالغ في اتصافه بهذه الصفة، أو تكون الإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى آيات القرآن جميعه على أن المراد بالكتاب جميع القرآن. ويكون قوله: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} جملة مبينة لكون هذا المنزل هو الحق. قال الفراء: {والذي} رفع بالاستئناف وخبره {الحق} قال: وإن شئت جعلت {الذي} خفضَا نعتاً للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما في قوله:
إلى الملكَ القرمِ وابن الهمامِ ***
ويجوز أن يكون محل {والذي أنزل إليك} الجرّ على تقدير: وآيات الذي أنزل إليك، فيكون الحق على هذا خبراً لمبتدأ محذوف {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بهذا الحق الذي أنزله الله عليك. قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال: {الله الذى رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ} والعمد: الأساطين جمع عماد أي: قائمات بغير عمد تعتمد عليه، وقيل لها عمد ولكن لا نراه. قال الزجاج: العمد: قدرته التي يمسك بها السموات، وهي غير مرئية لنا، وقرئ: {عمد} على أنه جمع عمود يعمد به، أي: يسند إليه. قال النابغة:
وخبر الجنّ إني قد أذنت لهم *** يبنون تدمر بالصفاح والعمد
وجملة {ترونها} مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك. وقيل: هي صفة لعمد، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: رفع السموات ترونها بغير عمد، ولا ملجئ إلى مثل هذا التكلف {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي: استولى عليه بالحفظ والتدبير، أو استوى أمره، أو أقبل على خلق العرش، وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى، والاستواء على العرش صفة لله سبحانه بلا كيف كما هو مقرّر في موضعه من علم الكلام: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} أي: ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق، ومصالح العباد {كُلٌّ يَجْرِى لأجل مُّسَمًّى} أي كلّ من الشمس والقمر يجري إلى وقت معلوم: وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكوّر عندها الشمس ويخسف القمر، وتنكدر النجوم وتنتثر، وقيل: المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي تنتهيان إليها لا يجاوزنها، وهي سنة للشمس، وشهر للقمر {يُدَبّرُ الأمر} أي: يصرّفه على ما يريد، وهو أمر ملكوته وربوبيته {يُفَصّلُ الآيات} أي: يبينها، وهي الآيات الدالة على كمال قدرته وربوبيته، ومنها ما تقدّم من رفع السماء بغير عمد، وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى، والجملتان في محل نصب على الحال أو خبر إن لقوله: {الله الذى رَفَعَ} على أن الموصول صفة للمبتدأ، والمراد من هذا تنبيه العباد أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة، ولذا قال: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ} أي: لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه، ولا تمترون في صدقه.
ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال: {وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض} قال الفراء: بسطها طولاً وعرضاً.
وقال الأصمّ: إن المدّ: هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، وهذا المدّ الظاهر للبصر لا ينافي كريتها في نفسها لتباعد أطرافها {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} أي: جبالاً ثوابت، واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها، أي: تثبت. والإرساء: الثبوت. قال عنترة:
فصرت عارفة لذلك حرّة *** ترسو إذا نفس الجبانِ تطلع
وقال جميل:
أُحبها والذي أرسى قواعِده *** حتى إذا ظَهرت آياتُه بطنا
{وأنهارا} أي: مياهاً جارية في الأرض فيها منافع الخلق، أو المراد جعل فيها مجاري الماء {وَمِن كُلّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} من كل الثمرات متعلق بالفعل الذي بعده، أي: جعل فيها من كل الثمرات {زوجين اثنين} الزوج يطلق على الاثنين، وعلى الواحد المزاوج لآخر، والمراد هنا بالزوج الواحد، ولهذا أكد الزوجين بالاثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الاثنين، وقد تقدّم تحقيق هذا مستوفي، أي: جعل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين، إما في اللونية: كالبياض والسواد ونحوهما، أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما، أو في القدر كالصغر والكبر، أو في الكيفية كالحر والبرد.
قال الفراء: يعني بالزوجين هنا: الذكر والأنثى. والأول أولى {يغشى الليل النهار} أي: يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلماً بعدما كان أبيض منيراً، شبه إزالة نور الهدى بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها، وقد سبق تفسير هذه في الأعراف {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: فيما ذكر من مدّ الأرض وإثباتها بالجبال، وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة. وتعاقب النور والظلمة آيات بينة للناظرين المتفكرين المعتبرين.
{وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات} هذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر من أنواع الآيات. قيل: وفي الكلام حذف، أي: قطع متجاورت، وغير متجاورات، كما في قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: وتقيكم البرد. قيل: والمتجاورات: المدن وما كان عامراً، وغير المتجاورات: الصحارى وما كان غير عامر، وقيل: المعنى: متجاورات متدانيات، ترابها واحد وماؤها واحد. وفيها زرع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار فيكون البعض حلواً والبعض حامضاً، والبعض طيباً والبعض غير طيب، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع آخر {وجنات مّنْ أعناب} والجنات: البساتين، قرأ الجمهور برفع {جنات} على تقدير: وفي الأرض جنات، فهو معطوف على قطع متجاورات، أو على تقدير: وبينها جنات.
وقرأ الحسن بالنصب على تقدير: وجعل فيها جنات، وذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل؛ لأنه يكون في الخارج كثيراً كذلك، ومثله في قوله سبحانه: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32].
{صنوان وَغَيْرُ صنوان} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص {وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} برفع هذه الأربع عطفاً على جنات، وقرأ الباقون بالجرّ عطفاً على أعناب. وقرأ مجاهد والسلمي بضم الصاد من صنوان. وقرأ الباقون بالكسر، وهما لغتان.
قال أبو عبيدة: صنوان: جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحداً، ثم يتفرع فيصير نخلاً، ثم يحمل، وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير. قال ابن الأعرابي: الصنو: المثل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «عم الرجل صنو أبيه»، فمعنى الآية على هذا: أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون. قال في الكشاف: والصنوان جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد، وقيل: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق. قال النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر: صنوان، والصنو: المثل، ولا فرق بين التثنية والجمع إلاّ بكسر النون في المثنى، وبما يقتضيه الإعراب في الجمع.
{يسقى بِمَاء واحد} قرأ عاصم وابن عامر: {يسقى} بالتحتية، أي: يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد وأبو عمرو، قال أبو عمرو: التأنيث أحسن لقوله: {وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل} ولم يقل: بعضه. وقرأ حمزة والكسائي {يفضل} بالتحتية كما في قوله: {يُدَبّرُ الأمر يُفَصّلُ الآيات} [الرعد: 2] وقرأ الباقون بالنون على تقدير: ونحن نفضل.
وفي هذا من الدلالة على بديع صنعه، وعظيم قدرته ما لا يخفى على من له عقل؛ فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل، فيكون طعم بعضها حلواً والآخر حامضاً، وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلاّ قدرة الصانع الحكيم جلّ سلطانه وتعالى شأنه، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلاّ لسببين: إما اختلاف المكان الذي هو المنبت، أو اختلاف الماء الذي تسقى به، فإذا كان المكان متجاوراً، وقطع الأرض متلاصقة، والماء الذي تسقى به واحداً، لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلاّ تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب، ولهذا قال الله سبحانه: {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يعلمون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات.
وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {المر} قال: أنا الله أرى.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن مجاهد {المر} فواتح يفتتح بها كلامه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله: {تِلْكَ ءايات الكتاب} قال: التوراة والإنجيل {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} قال: القرآن.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة نحو.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} قال: وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ عنه في الآية قال: يقول لها عمد ولكن لا ترونها يعني: الأعماد.
وأخرج ابن جرير عن إياس بن معاوية في الآية قال: السماء مقببة على الأرض مثل القبة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السماء على أربعة أملاك، كل زاوية موكل بها ملك.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ في قوله: {لأَجَلٍ مُّسَمًّى} قال: الدنيا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {يُدَبّرُ الأمر} قال: يقضيه وحده.
وأخرج. ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام، أربعمائة خراب، ومائة عمران، في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة.
وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك تقديرات لم يأت عليها دليل يصح.
وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال: لما خلق الله الأرض قمصت. وقالت: أي ربّ، تجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث، فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون، فكان إقرارها كاللحم ترجرج.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {يغشى الليل النهار} أي: يلبس الليل النهار.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبوالشيخ عن ابن عباس في قوله: {وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات} قال: يريد الأرض الطيبة العذبة التي يخرج نباتها بإذن ربها، تجاورها السبخة القبيحة المالحة التي لا تخرج، وهما أرض واحدة، وماؤها شيء واحد، ملح أو عذب، ففضلت إحداهما على الأخرى.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: قرئ: {متجاورات} قريب بعضها من بعض.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: الأرض تنبت حلواً، والأرض تنبت حامضاً، وهي متجاورات تسقى بماء واحد.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله: {صنوان وَغَيْرُ صنوان} قال: الصنوان: ما كان أصله واحداً وهو متفرّق، {وغير صنوان} التي تنبت وحدها، وفي لفظ: صنوان: النخلة في النخلة ملتصقة، وغير صنوان: النخل المتفرق.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {صنوان} قال: مجتمع النخل في أصل واحد {وَغَيْرُ صنوان} قال: النخل المتفرّق.
وأخرج الترمذي وحسنه، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة، عن النبي في قوله: {وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل} قال: «الدقل، والفارسي، والحلو، والحامض».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هذا حامض، وهذا حلو، وهذا دقل، وهذا فارسي.


قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} أي: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم من الصادقين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث، والله تعالى لا يجوز عليه التعجب؛ لأنه تغير النفس بشيء تخفى أسبابه وإنما ذكر ذلك ليعجب منه رسوله وأتباعه. قال الزجاج: أي هذا موضوع عجب أيضاً أنهم أنكروا البعث، وقد بين لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة. وقيل: الآية في منكري الصانع، أي: إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بدّ له من مغير، فهو محل التعجب، والأول أولى لقوله: {أإذا كنا تراباً أئنا لفى خلق جديد} وهذه الجملة في محل رفع على البدلية من {قولهم} ويجوز أن تكون في محل نصب على أنها مقول القول، والعجب على الأول كلامهم، وعلى الثاني تكلمهم بذلك، والعامل في {أإذا} ما يفيده قوله: {أإنا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو نبعث أو نعاد، والاستفهام منهم للإنكار المفيد لكمال الاستبعاد، وتقديم الظرف في قوله: {لَفِى خَلْقٍ} لتأكيد الإنكار بالبعث، وكذلك تكرير الهمزة في قوله: {أإنا}. ثم لما حكى الله سبحانه ذلك عنهم حكم عليهم بأمور ثلاثة: الأول: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} أي: أولئك المنكرون لقدرته سبحانه على البعث: هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه، والثاني {وَأُوْلَئِكَ الأغلال فِى أعناقهم} الأغلال: جمع غلّ، وهو طوق تشد به اليد إلى العنق، أي: يغلون بها يوم القيامة، وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق. والثالث: {وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، وفي توسيط ضمير الفصل دلالة على تخصيص الخلود بمنكري البعث.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} السيئة: العقوبة المهلكة، والحسنة: العافية والسلامة. قالوا هذه المقالة لفرط إنكارهم وشدّة تصميمهم وتهالكهم على الكفر. وقيل: معنى الآية: أنهم طلبوا العقوبة قبل الحسنة، وهي الإيمان {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات}. قرأ الجمهور {مثُلات} بفتح الميم وضمّ المثلثة جمع مثلة كسمرة، وهي العقوبة. قال ابن الأنباري: المثلة: العقوبة التي تبقى في المعاقب شيئا بتغيير بعض خلقه من قولهم: مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه. وقرأ الأعمش بفتح الميم وإسكان المثلثة تخفيفاً لثقل الضمة، وفي لغة تميم بضم الميم والمثلثة جميعاً، واحدتها على لغتهم: مُثلة، بضم الميم وسكون المثلثة مثل غُرفة وغُرفات. وحكي عن الأعمش في رواية أخرى أنه قرأ هذا الحرف بضمها على لغة تميم. والمعنى: أن هؤلاء يستعجلونك بإنزال العقوبة بهم، وقد مضت من قبلهم عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لا يعتبرون بهم، ويحذرون من حلول ما حلّ بهم، والجملة في محل نصب على الحال، وهذا الاستعجال من هؤلاء هو على طريقة الاستهزاء كقولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} أي: لذو تجاوز عظيم {لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} أنفسهم باقترافهم الذنوب ووقوعهم في المعاصي إن تابوا عن ذلك، ورجعوا إلى الله سبحانه، والجارّ والمجرور أي: على ظلمهم في محل نصب على الحال أي: حال كونهم ظالمين، و{على} بمعنى (مع) أي: مع ظلمهم، وفي الآية بشارة عظيمة ورجاء كبير؛ لأن من المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائباً، ولهذا قيل: إنها في عصاة الموحدين خاصة. وقيل: المراد بالمغفرة هنا: تأخير العقاب إلى الآخرة ليطابق ما حكاه الله من استعجال الكفار للعقوبة. وكما تفيده الجملة المذكورة بعد هذه الآية. وهي {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} يعاقب العصاة المكذبين من الكافرين عقاباً شديداً على ما تقتضيه مشيئته في الدار الآخرة.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رَّبّهِ} أي: هلا أنزل عليه آية غير ما قد جاء به من الآيات، وهؤلاء الكفار القائلون هذه المقالة هم المستعجلون للعذاب. قال الزجاج: طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى، فقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ} تنذرهم بالنار، وليس إليك من الآيات شيء. انتهى. وهذا مكابرة من الكفار وعناد، وإلاّ فقد أنزل الله على رسوله من الآيات ما يغني البعض منه، وجاء في {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ} بصيغة الحصر لبيان أنه صلى الله عليه وسلم مرسل لإنذار العباد، وبيان ما يحذرون عاقبته، وليس عليه غير ذلك، وقد فعل ما هو عليه، وأنذر أبلغ إنذار، ولم يدع شيئاً مما يحصل به ذلك إلاّ أتى به وأوضحه وكرره، فجزاه الله عن أمته خيراً.
{وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} أي: نبيّ يدعوهم إلى ما فيه هدايتهم ورشادهم. وإن لم تقع الهداية لهم بالفعل ولم يقبلوها، وآيات الرسل مختلفة هذا يأتي بآية أو آيات لم يأت بها الآخر بحسب ما يعطيه الله منها، ومن طلب من بعضهم ما جاء به البعض الآخر فقد بلغ في التعنت إلى مكان عظيم، فليس المراد من الآيات إلاّ الدلالة على النبوّة لكونها معجزة خارجة عن القدرة البشرية، وذلك لا يختص بفرد منها، ولا بأفراد معينة. وقيل: إن المعنى {ولكل قوم هاد} وهو الله- عزّ وجلّ- فإنه القادر على ذلك، وليس على أنبيائه إلاّ مجرد الإنذار.
{الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} الجملة مستأنفة مسوقة لبيان إحاطته بالعلم سبحانه، وعلمه بالغيب الذي هذه الأمور المذكورة منه، قيل: ويجوز أن يكون الاسم الشريف خبراً لمبتدأ محذوف، أي: ولكل قوم هاد وهو الله.
وجملة {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} تفسير لهاد على الوجه الأخير، وهذا بعيد جداً، و{ما} موصولة، أي: يعلم الذي تحمله كل أنثى في بطنها من علقة، أو مضغة، أو ذكر، أو أنثى، أو صبيح، أو قبيح، أو سعيد، أو شقي. ويجوز أن تكون استفهامية، أيّ: يعلم أي شيء في بطنها، وعلى أيّ حال هو. ويجوز أن تكون مصدرية أي: يعلم حملها {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} الغيض: النقص، أي: يعلم الذي تغيضه الأرحام، أي: تنقصه، ويعلم ما تزداده. فقيل: المراد نقص خلقة الحمل وزيادته كنقص إصبع أو زيادتها. وقيل: إن المراد نقص مدّة الحمل على تسعة أشهر، أو زيادتها، وقيل. إذا حاضت المرأة في حال حملها كان ذلك نقصاً في ولدها، وقيل: الغيض: ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداده منه، و{ما} في {ما تغيض} {وما تزداد} تحتمل الثلاثة الوجوه المتقدّمة في {ما تحمل كل أنثى} {وَكُلُّ شَئ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} أي: كل شيء من الأشياء التي من جملتها الأشياء المذكورة عند الله سبحانه بمقدار، والمقدار: القدر الذي قدّره الله.
وهو معنى قوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَئ خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أي: كل الأشياء عند الله سبحانه جارية على قدره الذي قد سبق وفرغ منه، لا يخرج عن ذلك شيء.
{عالم الغيب والشهادة} أي: عالم كل غائب عن الحسّ، وكل مشهود حاضر، أو كل معدوم وموجود ولا مانع من حمل الكلام على ما هو أعمّ من ذلك {الكبير المتعال} أي: العظيم الذي كل شيء دونه، المتعالي عما يقوله المشركون، أو المستعلي على كل شيء بقدرته وعظمته وقهره.
ثم لما ذكر سبحانه أنه يعلم تلك المغيبات لا يغادره شيء منها، بين أنه عالم بما يسرّونه في أنفسهم وما يجهرون به لغيره، وأن ذلك لا يتفاوت عنده فقال: {سَوَاء مّنْكُمْ من أسرّ القول ومن جهر به} فهو يعلم ما أسرّه الإنسان كعلمه بما جهر به من خير وشر، وقوله: {منكم} متعلق بسواء على معنى: يستوي منكم من أسرّ ومن جهر، أو سرّ من أسرّ وجهر من جهر {ومن هو مستخف بالليل} أي: مستتر في الظلمة الكائنة في الليل متوار عن الأعين. يقال: خفي الشيء واستخفى أي: استتر وتوارى {وَسَارِبٌ بالنهار} قال الكسائي: سرب يسرب سُرباً وسُروباً إذا ذهب. ومنه قول الشاعر:
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم *** ونحن خلعنا قيده فهو سارب
أي: ذهب.
وقال القتيبي: سارب بالنهار متصرّف في حوائجه بسرعة، من قولهم: أسرب الماء. قال الأصمعي حلّ سربه أي: طريقته.
وقال الزجاج: معنى الآية: الجاهر بنطقه، والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات علم الله فيهم جميعاً سوّى، وهذا ألصق بمعنى الآية كما تفيده المقابلة بين المستخفي والسارب، فالمستخفي: المستتر، والسارب البارز الظاهر.
{لَهُ معقبات} الضمير في {له} راجع إلى {من} في قوله: {من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف} أي: لكل من هؤلاء معقبات. والمعقبات: المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه، ويكون بدلاً منه، وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين. قال الزجاج: المعقبات ملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض، وإنما قال: معقبات مع كون الملائكة ذكوراً؛ لأن الجماعة من الملائكة يقال لها: معقبة، ثم جمع معقبة على معقبات: ذكر معناه الفراء، وقيل: أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة. قال الجوهري: والتعقب العود بعد البدء. قال الله تعالى: {ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ} [النمل: 10] وقرئ: {معاقيب} جمع معقب {مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: من بين يدي من له المعقبات، والمراد: أن الحفظة من الملائكة من جميع جوانبه. وقيل: المراد بالمعقبات: الأعمال، ومعنى {من بين يديه ومن خلفه}: ما تقدم منها وما تأخر.
{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} أي: من أجل أمر الله، وقيل: يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بالاستمهال له والاستغفار حتى يتوب. قال الفراء: في هذا قولان: أحدهما أنه على التقديم والتأخير. تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، والثاني أن كون الحفظة يحفظونه هو مما أمر الله به. قال الزجاج: المعنى: حفظهم إياه من أمر الله أي: مما أمرهم به لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمرالله. قال ابن الأنباري: وفي هذا قول آخر، وهو أن {من} بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله. وقيل: إن {من} بمعنى عن، أي: يحفظونه عن أمر الله، بمعنى من عند الله، لا من عند أنفسهم، كقوله: {أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ} [قريش: 4] أي: عن جوع. وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب. وقيل: يحفظونه من الجن. واختار ابن جرير أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء، على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والعافية {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من طاعة الله، والمعنى: أنه لا يسلب قوماً نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذي بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة، أو يغيروا الفطرة التي فطرهم الله عليها. قيل: وليس المراد، أنه لا ينزل بأحد من عباده عقوبة حتى يتقدم له ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير كما في الحديث: «أنه سأل رسول الله سائل فقال: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا} أي: هلاكاً وعذاباً {فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} أي فلا ردّ له.
وقيل: المعنى إذا أراد الله بقوم سوءاً أعمى قلوبهم، حتى يختاروا ما فيه البلاء {وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} يلي أمرهم ويلتجئون إليه، فيدفع عنهم ما ينزل بهم من الله سبحانه من العقاب، أو من ناصر ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله. والمعنى: أنه لا رادّ لعذاب الله ولا ناقص لحكمه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} قال: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك فعجب قولهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم، وهم رأوا من قدرة الله وأمره، وما ضرب لهم من الأمثال وأراهم من حياة الموتى والأرض الميتة {فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفى خلق جديد} أو لا يرون أنه خلقهم من نطفة، فالخلق من نطفة أشد من الخلق من تراب وعظام.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} قال: العقوبات.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في {المثلات} قال: وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {المثلات} ما أصاب القرون الماضية من العذاب.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش: ولولا وعيده وعقابه لاتكل، كل أحد».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس {وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} نبيّ يدعوهم إلى الله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: محمد المنذر، والهادي الله- عزّ وجلّ- وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه أيضاً.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المنذر وهو الهادي.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة وأبي الضحى نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، والديلمي، وابن عساكر، وابن النجار عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ}: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: «أنا المنذر»، وأومأ بيده إلى منكب عليّ فقال: «أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي» قال ابن كثير في تفسيره: وهذا الحديث فيه نكارة شديدة.
وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه.
وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس مرفوعاً نحوه أيضاً.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب في الآية نحوه أيضاً.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} قال: كل أنثى من خلق الله.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال: يعلم ذكراً هو أو أنثى {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} قال: هي المرأة ترى الدم في حملها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} قال: خروج الدم {وَمَا تَزْدَادُ} قال: استمساكه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} قال: أن ترى الدم في حملها {وَمَا تَزْدَادُ} قال: في التسعة أشهر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه في الآية قال: ما تزداد على تسعة، وما تنقص من التسعة.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ عنه أيضاً في الآية {مَا تَغِيضُ الأرحام} قال: السقط {وَمَا تَزْدَادُ} ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهنّ من تحمل تسعة أشهر، ومنهنّ من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله، وكل ذلك بعلمه تعالى.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {عالم الغيب والشهادة} قال: السرّ والعلانية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: {ومن هو مستخف بالليل} قال: راكب رأسه في المعاصي {وَسَارِبٌ بالنهار} قال: ظاهر بالنهار بالمعاصي.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن عباس {وَسَارِبٌ بالنهار} قال: الظاهر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس: أن سبب نزول الآية قدوم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصة المشهورة، وأنه لما أصيب عامر بن الطفيل بالغدّة نزل قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} إلى قوله: {معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أربد بن قيس وما قتله، فقال: {هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق} إلى قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال}.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {معقبات} الآية قال: هذه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} قال: ذلك الحفظ من أمر الله بأمر الله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً {مِنْ أَمْرِ الله} قال: بإذن الله.
وأخرج ابن جرير عن قتادة مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: وليّ السلطان يكون عليه الحراس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، يقول: يحفظونه من أمري، فإني إذا أردت بقوم سوءاً فلا مردّ له.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه في الآية قال: الملوك يتخذون الحرس يحفظونه من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، يحفظونه من القتل، ألم تسمع أن الله يقول: {إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} أي: إذا أراد سوءاً لم يغن الحرس عنه شيئاً.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة في الآية قال: هؤلاء الأمراء.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هم الملائكة تعقب بالليل تكتب على ابن آدم.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ عن عليّ في الآية قال: ليس من عبد إلاّ ومعه ملائكة يحفظونه من أن تقع عليه حائط، أو ينزوي في بئر، أو يأكله سبع، أو غرق أو حرق، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبين القدر.
وقد ورد في ذكر الحفظة الموكلين بالإنسان أحاديث كثيرة مذكورة في كتب الحديث.


لما خوّف سبحانه عباده بإنزال مالاً مرد له أتبعه بأمور ترجى من بعض الوجوه، ويخاف من بعضها، وهي البرق، والسحاب، والرعد، والصاعقة، وقد مر في أول البقرة تفسير هذه الألفاظ وأسبابها.
وقد اختلف في وجه انتصاب {خَوْفًا وَطَمَعًا} فقيل: على المصدرية، أي: لتخافوا ولتطمعوا طمعاً، وقيل: على العلة بتقدير إرادة الخوف والطمع، لئلا يختلف فاعل الفعل المعلل وفاعل المفعول له، أو على الحالية من البرق، أو من المخاطبين بتقدير ذوي خوف. وقيل غير ذلك مما لا حاجة إليه. قيل: والمراد بالخوف هو الحاصل من الصواعق، وبالطمع هو الحاصل في المطر، وقال الزجاج: الخوف للمسافر لما يتأذى به من المطر، والطمع للحاضر. لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر، الذي هو سبب الخصب {وَيُنْشِئ السحاب الثقال} التعريف للجنس، والواحدة سحابة، والثقال: جمع ثقيلة، والمراد أن الله سبحانه يجعل السحاب التي ينشئها ثقالاً بما يجعله فيها من الماء.
{وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ} أي: يسبح الرعد نفسه بحمد الله أي: متلبساً بحمده، وليس هذا بمستبعد، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك {وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44]. وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك، ويكون ذكره على الإفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له، وعناية به، وقيل: المراد: ويسبح سامعو الرعد، أي يقولون: سبحان الله والحمدلله {والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} أي: ويسبح الملائكة من خيفة الله سبحانه. وقيل: من خيفة الرعد.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أن هؤلاء الملائكة هم أعوان الرعد. وأن الله سبحانه جعل له أعواناً {وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء} من خلقه فيهلكه، وسياق هذه الأمور هنا للغرض الذي سيقت له الآيات التي قبلها، وهي الدلالة على كمال قدرته {وَهُمْ يجادلون فِى الله} الضمير راجع إلى الكفار، المخاطبين في قوله: {هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق} أي: وهؤلاء الكفرة مع هذه الآيات التي أراهم الله يجادلون في شأن الله سبحانه فينكرون البعث تارة، ويستعجلون العذاب أخرى، ويكذبون الرسل ويعصون الله، وهذه الجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة.
{وَهُوَ شَدِيدُ المحال} قال ابن الأعرابي: المحال المكر، والمكر من الله: التدبير بالحق.
وقال النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر.
وقال الأزهري: المحال: القوة والشدة، والميم أصلية، وما حلت فلاناً محالاً أينا أشد.
وقال أبو عبيد: المحال: العقوبة والمكروه. قال الزجاج: يقال ما حلته محالاً: إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد، والمحْلُ في اللغة: الشدة.
وقال ابن قتيبة: أي شديد الكيد، وأصله من الحيلة جعل الميم كميم المكان، وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت.
قال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة، بل هي أصلية. وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية، مثل مهاد وملاك ومراسي وغير ذلك من الحروف. وقرأ الأعرج: {وهو شديد المحال} بفتح الميم.
وقد فسرت هذه القراءة بالحول.
وللصحابة والتابعين في تفسير المحال هنا أقوال ثمانية: الأول: العداوة. الثاني الحول. الثالث الأخذ. الرابع: الحقد. الخامس: القوة. السادس: الغضب. السابع: الهلاك. الثامن: الحيلة. {لَهُ دَعْوَةُ الحق} إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة، أي: الدعوة الملابسة للحق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه، كما يقال: كلمة الحق، والمعنى أنها دعوة مجابة واقعة في موقعها، لا كدعوة من دونه. وقيل: الحق هو الله سبحانه، والمعنى: أن لله سبحانه دعوة المدعو الحق، وهو الذي يسمع فيجيب، وقيل: المراد بدعوة الحق ها هنا: كلمة التوحيد والإخلاص، والمعنى: لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له. وقيل: دعوة الحق دعاؤه سبحانه عند الخوف فإنه لا يدعى فيه سواه كما قال تعالى: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]. وقيل: الدعوة: العبادة، فإن عبادة الله هي الحق والصدق: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَئ} أي: والآلهة الذين يدعونهم- يعني الكفار- من دون الله- عزّ وجلّ- لا يستجيبون لهم بشيء مما يطلبونه منهم كائناً ما كان إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فإنه لا يجيبه؛ لأنه جماد لا يشعر بحاجته إليه، ولا يدري أنه طلب منه أن يبلغ فاه. ولهذا قال: {وَمَا هُوَ} أي: الماء {بِبَالِغِهِ} أي: ببالغ فيه. قال الزجاج: إلاّ كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء يدعو الماء إلى فيه، والماء لا يستجيب، أعلم الله سبحانه أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان إلى الماء يدعوه إلى بلوغ فمه، وما الماء ببالغه. وقيل: المعنى: أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفه شيء منه.
وقد ضربت العرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقبض على الماء كما قال الشاعر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها *** من الود مثل القابض الماء باليد
وقال الآخر:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض *** على الماء خانته فروج الأصابع
وقال الفراء: إن المراد بالماء هنا ماء البئر، لأنها معدن للماء، وأنه شبهه بمن مد يده إلى البئر بغير رشاء، ضرب الله سبحانه هذا مثلاً لمن يدعو غيره من الأصنام. {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} أي: يضل عنهم ذلك الدعاء فلا يجدون منه شيئاً، ولا ينفعهم بوجه من الوجوه، بل هو ضائع ذاهب.
{وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السموات والأرض * طَوْعًا وَكَرْهًا} إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي، وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل، فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن، وأما في الكفار فلا يصح تأويل السجود بهذا في حقهم، فلا بدّ أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى: حق لله السجود ووجب، حتى يُناول السجود بالفعل وغيره، أو يفسر للسجود بالانقياد.
لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره، وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت والفقر والغنى. ويدل على إرادة هذا المعنى قوله: {طَوْعًا وَكَرْهًا} فإن الكفار ينقادون كرهاً كما ينقاد المؤمنون طوعاً، وهما منتصبان على المصدرية، أي: انقياد طوع وانقياد كره، أو على الحال، أي: طائعين وكارهين، وقال الفراء: الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعاً، وبعض الكفار يسجدون إكراهاً وخوفاً كالمنافقين، فالآية محمولة على هؤلاء. وقيل: الآية في المؤمنين، فمنهم من سجد طوعاً لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة ولكنهم يتحملون المشقة إيماناً بالله وإخلاصاً له.
{وظلالهم بالغدو والآصال} وظلالهم: جمع ظل، والمراد به: ظل الإنسان الذي يتبعه، جعل ساجداً بسجوده حيث صار لازماً له لا ينفك عنه. قال الزجاج، وابن الأنباري: ولا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاماً تسجد بها لله سبحانه، كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه، فظل المؤمن يسجد لله طوعاً. وظل الكافر يسجد لله كرهاً. وخص الغدو والآصال بالذاكر، لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما، وهما ظرف للسجود المقدر، أي: ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين، وقد تقدّم تفسير الغدوّ والآصال في الأعراف، وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَئ يَتَفَيَّأُ ظلاله عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون} [النحل: 48] وجاء بمن في {من في السموات والأرض} تغليباً للعقلاء على غيرهم، ولكون سجود غيرهم تبعاً لسجودهم، ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم {لله} على الفعل من الاختصاص، فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم، ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرّون على أنفسهم بأنها من الله، كالخلق والحياة والموت، ونحو ذلك.
{قُلْ مَن رَّبُّ السموات والأرض} أمر الله سبحانه رسوله أن يسأل الكفار: من رب السموات والأرض؟ ثم لما كانوا يقرّون بذلك ويعترفون به كما حكاه الله سبحانه في قوله: {ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9]. وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب، فقال: {قُلِ الله} فكأنه حكى جوابهم وما يعتقدونه، لأنهم ربما تلعثموا في الجواب حذراً مما يلزمهم، ثم أمره بأن يلزمهم الحجة ويبكتهم فقال: {قُلْ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} والاستفهام للإنكار، أي: إذا كان رب السموات والأرض هو الله كما تقرون بذلك وتعترفون به كما حكاه سبحانه عنكم بقوله: {قُلْ مَن رَّبُّ * السموات * السبع وَرَبُّ العرش العظيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86- 87] فما بالكم اتخذتم لأنفسكم من دونه أولياء عاجزين {لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا} ينفعونها به {وَلاَ ضَرّا} يضرون به غيرهم أو يدفعونه عن أنفسهم، فكيف ترجون منهم النفع والضر وهم لا يملكونهما لأنفسهم، والجملة في محل نصب على الحال، ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلاً وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم. فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} أي: هل يستوي الأعمى في دينه وهو الكافر، والبصير فيه وهو الموحد، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه، والثاني عالم بذلك. قرأ ابن محيصن، وأبو بكر، والأعمش، وحمزة، والكسائي {أم هل يستوي الظلمات والنور} بالتحتية. وقرأ الباقون بالفوقية. واختار القراءة الثانية أبو عبيد، والمراد بالظلمات: الكفر، وبالنور: الإيمان، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي: كيف يكونان مستويين وبينهما من التفاوت ما بين الأعمى والبصير، وما بين الظلمات والنور؟ ووحد النور وجمع الظلمات، لأن طريق الحق واحدة لا تختلف، وطرائق الباطل كثيرة غير منحصرة.
{أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} {أم} هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة، أي: بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، والاستفهام لإنكار الوقوع. قال ابن الأنباري: معناه أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم، أي: ليس الأمر على هذا حتى يشتبه الأمر عليهم، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المنفرد بالخلق، وسائر الشركاء لا يخلقون شيئاً، وجملة: {خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} في محل نصب صفة لشركاء، والمعنى: أنهم لم يجعلوا لله شركاء متصفين بأنهم خلقوا كخلقه {فَتَشَابَهَ} بهذا السبب {الخلق عَلَيْهِمْ} حتى يستحقوا بذلك العبادة منهم، بل إنما جعلوا له شركاء الأصنام ونحوها، وهي بمعزل عن أن تكون كذلك، ثم أمره الله سبحانه بأن يوضح لهم الحق ويرشدهم إلى الصواب فقال: {قُلِ الله خالق كُلّ شَئ} كائناً ما كان ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه. قال الزجاج: والمعنى: أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقاً، ألا ترى أنه تعالى شيء وهو غير مخلوق {وَهُوَ الواحد} أي: المتفرّد بالربوبية {القهار} لما عداه، فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب.
ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر للحق وذويه، وللباطل ومنتحليه فقال: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء} أي: من جهتها، والتنكير للتكثير أو للنوعية {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} جمع وادٍ، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما. قال أبو علي الفارسي: لا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة إلاّ هذا، وكأنه حمل على فعيل فجمع على أفعلة مثل جريب وأجربة.
كما أن فعيلاً حمل على فاعل، فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف، كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر. قال: وفي قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} توسع أي: سال ماؤها، قال: ومعنى {بِقَدَرِهَا} بقدر مائها، لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. قال الواحدي: والقدر مبلغ الشيء، والمعنى: بقدرها من الماء، فإن صغر الوادي قلّ الماء وإن اتسع كثر، وقال في الكشاف: {بقدرها} بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ. قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر، إذ نفع نزول القرآن يعمّ كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب: إذ الأودية يستكنّ فيها الماء كما يستكنّ القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين.
{فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا} الزبد: هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل، ويقال له: الغثاء والرغوة، والرابي: العالي المرتفع فوق الماء. قال الزجاج: هو الطافي فوق الماء، وقال غيره: هو الزائد بسبب انتفاخه، من ربا يربو إذا زاد. والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحلّ ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح. فكذلك يذهب الكفر ويضمحلّ.
وقد تمّ المثل الأولّ، ثم شرح سبحانه في ذكر المثل الثاني فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار} {من} لابتداء الغاية، أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، أو للتبعيض، بمعنى: وبعضه زبد مثله، والضمير للناس، أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره. هذا على قراءة {يوقدون} بالتحتية، وبها قرأ حميد وابن محيصن، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب، واختار القراءة الأولى أبو عبيد. والمعنى: ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المنطرقة الذائبة.
{ابتغاء حِلْيَةٍ} أي: لطلب اتخاذ حلية تتزينون بها وتتجملون كالذهب والفضة {أَوْ متاع} أي: أو طلب متاع تتمتعون به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص {زَبَدٌ مّثْلُهُ} المراد بالزبد هنا الخبث، فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء فالضمير في {مثله} يعود إلى {زبداً رابياً} وارتفاع {زبد} على الابتداء وخبره {مما يوقدون} {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} أي: مثل ذلك الضرب البديع يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل، ثم شرع في تقسيم المثل فقال: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء} يقال: جفأ الوادي بالهمز جفاء: إذا رمى بالقذر والزبد. قال الفراء: الجفاء الرمي. يقال: جفأ الوادي غثاء جفاء: إذا رمى به، والجفاء بمنزلة الغثاء. وكذا قال أبو عمرو بن العلاء، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ: {جفالاً}. قال أبو عبيدة: يقال: أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها. وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته، قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفأر.
واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة، أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبداً رابياً فوقه. وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة، فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب، فإذا أذبيت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثاً مرتفعاً فوقها.
{وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} منهما وهو الماء الصافي، والذائب الخالص من الخبث {فَيَمْكُثُ فِى الأرض} أي: يثبت فيها. أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فتنتفع الناس به، وأما ما أذيب من تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة. وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل، يقول: إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحلّ وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه، فهذا مثل الباطل؛ وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض، كذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصاً لا شوب فيه، وهو مثل الحق. قال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعاً بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به.
وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدّم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك مثلاً ضربه الله للقرآن. {كذلك يَضْرِبُ الله الامثال} أي: مثل ذلك الضرب العجيب يضرب الله الأمثال في كل باب لكمال العناية بعباده واللطف بهم، وهذا تأكيد لقوله: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل}.
ثم بين سبحانه من ضرب له مثل الحق ومثل الباطل من عباده، فقال: فيمن ضرب له مثل الحق {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ} أي: أجابوا دعوته إذ دعاهم إلى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه، و{الحسنى} صفة موصوف محذوف، أي: المثوبة الحسنى وهي الجنة، وقال سبحانه فيمن ضرب له مثل الباطل {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} لدعوته إلى ما دعاهم إليه، والموصول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية، وهي {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً} من أصناف الأموال التي يتملكها العباد ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شيء {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي: مثل ما في الأرض جميعاً كائناً معه ومنضماً إليه {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أي: بمجموع ما ذكر وهو ما في الأرض ومثله. والمعنى: ليخلصوا به مما هم فيه من العذاب الكبير والهول العظيم، ثم بين الله سبحانه ما أعدّه لهم فقال: {أولئك} يعني: الذين لم يستجيبوا {لَهُمْ سُوء الحساب} قال الزجاج: لأن كفرهم أحبط أعمالهم، وقال غيره: سوء الحساب المناقشة فيه؛ وقيل: هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي: مرجعهم إليها {وَبِئْسَ المهاد} أي: المستقرّ الذي يستقرون فيه.
والمخصوص بالذم محذوف.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا وَطَمَعًا} قال: خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعاً للمقيم يطمع في رزق الله ويرجو بركة المطر ومنفعته.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: خوفاً لأهل البحر وطمعاً لأهل البر.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: الخوف ما يخاف من الصواعق، والطمع: الغيث.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والخرائطي في مكارم الأخلاق، والبيهقي في سنّنه من طرق عن عليّ بن أبي طالب قال: البرق: مخاريق من نار بأيدي ملائكة السحاب يزجرون به السحاب.
وروي عن جماعة من السلف ما يوافق هذا ويخالفه، ولعلنا قد قدّمنا في سورة البقرة شيئاً من ذلك.
وأخرج أحمد عن شيخ من بني غفار قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ينشئ السحاب فتنطق أحسن النطق وتضحك أحسن الضحك» قيل: والمراد بنطقها الرعد، وبضحكها البرق.
وقد ثبت عند أحمد، والترمذي، والنسائي في اليوم والليلة، والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك».
وأخرج العقيلي وضعفه، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينشئ الله السحاب ثم ينزل فيه الماء، فلا شيء أحسن من ضحكه، ولا شيء أحسن من نطقه، ومنطقه الرعد وضحكه البرق».
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله: أن خزيمة بن ثابت، وليس بالأنصاري، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منشأ السحاب فقال: «إن ملكاً موكلاً يلمّ القاصية ويلحم الدانية، في يده مخراق، فإذا رفع برقت وإذا زجر رعدت، وإذا ضرب صعقت».
وأخرج أحمد، والترمذي وصححه. والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهنّ عرفنا أنك نبيّ واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: {الله على ما نقول وكيل} [يوسف: 66]، قال هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبيّ؟ قال: «تنام عيناه ولا ينام قلبه»، قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ قال: «يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت» قالوا: أخبرنا عمّا حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: «كان يشتكي عرق النساء، فلم يجد شيئاً يلائمه إلاّ ألبان كذا وكذا: يعني: الإبل، فحرم لحومها» قالوا: صدقت، قالوا أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: «ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله»، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «صوته»، قالوا: صدقت إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا، إنه ليس من نبيّ إلاّ له ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: «جبريل» قالوا: جبريل ذاك ينزل بالخراب والقتال والعذاب عدوّنا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان فأنزل الله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] إلى آخر الآية.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا في المطر، وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له، وقال: إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه.
وقد روي نحو هذا عنه من طرق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن الرعد صوت الملك، وكذا أخرج نحوه أبو الشيخ عن ابن عمر.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال: الرعد ملك اسمه الرعد، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتدّ زجره احتك السحاب واضطرم من خوفه، فتخرج الصواعق من بينه، وأخرج ابن أبي حاتم، والخرائطي، وأبو الشيخ في العظمة عن أبي عمران الجوني قال: إن بحوراً من نار دون العرش يكون منها الصواعق.
وأخرج أبو الشيخ عن السدّي قال: الصواعق نار.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} قال: شديد القوّة.
وأخرج ابن جرير عن علي قال: شديد الأخذ.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه في قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الحق} قال: التوحيد: لا إله إلاّ الله.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طرق عن ابن عباس في قوله: {دَعْوَةُ الحق} قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن جرير عن علي في قوله: {إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} قال: كان الرجل العطشان يمدّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: هذا مثل المشرك الذي عبد مع الله غيره، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه.
وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله: {هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير} قال: المؤمن والكافر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه أيضاً في قوله: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء} الآية قال: هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء} وهو الشك {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِى الأرض} وهو اليقين، وكما يجعل الحليّ في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك.
وأخرج هؤلاء عنه أيضاً: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قال: الصغير قدر صغره، والكبير قدر كبره.

1 | 2 | 3